وحريصون على التمسك بالسنة، والابتعاد عن البدع، وعن الشركيات، وما أشبه ذلك، فلا يفعلون شيئا غير ما فعله نبي الله -صلى الله عليه وسلم- فقد ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه: طاف بهذا البيت فطاف طواف القدوم؛ وذلك لأنه كان قارنا؛ لأن معه الهدي، ولما طاف طواف القدوم رمل ثلاثة أشواط، يخب فيها خبا؛ يعني يسرع المشي مع مقاربة الخُطى، وكذلك أيضا: اضطبع بأن أظهر عضده، ومنكبه الأيمن، وجعل الرداء تحت إبطه الأيمن، وطرفيه على عاتقه الأيسر؛ وذلك ليكون أقوى له وأظهر للقوة.
وكذلك أيضا: أتم سبعة أشواط، وكان في كل شوط يستلم الركنين: الركن اليماني يستلمه بأن يضع يده عليه، والركن الذي فيه الحجر يقبله، أو يستلمه بمحجن ويقبله أو بيده ويقبل يده.
وأما الركنان الشاميان اللذان في جهة الشام فلم يقبل، ولم يستلم منهما لا الركن العراقي ولا الركن الشامي بل إنما يستلم الركنين اليمانيين.
هكذا فنقتصر على ما بينه لنا النبي -صلى الله عليه وسلم- وعلى ما فعله. الله تعالى أمر بالطواف في قوله: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ
والنبي -صلى الله عليه وسلم- بين كيفية الطواف فجعل البيت كله عن يساره، فمن طاف وجعل البيت عن يمينه معاكسا فقد خالف السنة.
وبين -صلى الله عليه وسلم- عدد الطواف أنه سبعة أشواط، وأنه إذا أراد أن يتطوع فإنه يتطوع بسبعة، أو بسبعة وسبعة وهكذا؛ وذلك لأن الطواف بهذا البيت عبادة وقربة، وقد روي في حديث أن: الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام
فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير؛ ولأن الله تعالى بدأ به لما قال تعالى:
وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ
فبدأ بالطواف؛ ليدل على أنه عبادة من العبادات، وأن هذا الطواف إنما هو تعظيم للرب -سبحانه وتعالى- وليس هو عبادة للبيت وأنه يقتدي فيه بالسنة النبوية. حيث بينه -صلى الله عليه وسلم- وبين عدد الطوافات: فطاف للقدوم سبعة أشواط، وفي يوم العيد أفاض من منى بعد ما رمى الجمرة، ونحر وحلق، وأفتى الناس بما يحتاجون إليه. بعد ذلك توجه إلى البيت فطاف الطواف الذي هو طواف الحج، وسعى بين الصفا والمروة .
ولما سعى بدأ بالصفا وقال: نبدأ بما بدأ الله به، بعد أن قرأ الآية من سورة البقرة: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ
ثم التف بين العلمين وكان يقول:
أيها الناس، اسعوا؛ فإن الله كتب عليكم السعي
وكذلك أيضا: في اليوم الرابع عشر، أو في صبح اليوم الرابع عشر طاف طواف الوداع؛ وذلك ليكون آخر عهده بالبيت أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت ولما ذكر له: أن زوجته صفية قد حاضت قال:
أحابستنا هي فقالوا: إنها قد أفاضت
أي: طافت طواف الإفاضة الذي هو ركن، فأرخص لها أن تنفر، وأرخص لمن حاضت أن يسقط عنها طواف الوداع. أما غيرهم فاعتبر طواف الوداع واجبا من الواجبات التي لا يتم الحج إلا بها، والتي من تركها فعليه دم.
فقد عرفنا أن واجبات الحج سبعة:
أولها: الإحرام من الميقات، فمن أحرم من دونه فعليه دم جبرانا، هذا إذا كان قارنا، أو مفردا، وكذلك إذا كان معتمرا فإنه لا بد أن يحرم بعمرته من الميقات.
والثاني من الواجبات: الوقوف بعرفة إلى الليل، فمن انصرف منها قبل الليل فعليه دم جبران؛ وذلك لأنهم اشترطوا أن يجمع في وقوفه بين الليل والنهار لمن وقف نهارا، وأما من وقف ليلا فإنه يكتفي بذلك.
الواجب الثالث: المبيت بمزدلفة إلى ما بعد نصف الليل، والأكمل أن يبقى فيها إلى أن يصلي الفجر ويسفر جدا.
والواجب الرابع: رمي الجمار، ويعتبر كله واجبا، فمن ترك رمي الجمار كلها في الأيام الثلاثة .أي في يوم العيد، واليومين بعده، وكذلك في اليوم الثالث لمن لم يتعجل اعتبر قد ترك واجبا من الواجبات.
والواجب الخامس: المبيت بمنى أي أيام منى أي يوم العيد ويومين بعده. المبيت بمنى واجبا من الواجبات.
والواجب السادس: الحلق أو التقصير؛ فإنه عباده، ولو كان إزالة لشعر، ولو كان إزالة للتفث، أو نحو ذلك، ولم يعدوا تقليم الأظفار من الواجبات، ولو كان من المحظورات؛ يعني من المحظورات في الإحرام تقليم الأظفار ولكن بعد التحلل لا يلزم أن يقلم أظفاره: لا أظفار يديه، ولا أظفار رجليه، وما ذاك إلا أنه إنما نهي عنه؛ لأنه ترفه في حالة الإحرام.
والواجب السابع والأخير: هو طواف الوداع الذي هو سبعة أشواط.
وأما من أراد أن يتطوع فإن له ذلك له أن يتطوع ما شاء من الصلاة في الحرم ؛ فإن الصلاة فيه تعتبر عبادة مفضلة، كما جاء في حديث: إن صلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة
والصحيح: أن المسجد الحرام يختص بالمسجد الذي حول الكعبة الذي له حيطان محيطة به من جهاته الأربع، هذا هو المسجد الحرام ويدخل فيه المسعى؛ فإنه داخل الآن في الحيطان، وكذلك أيضا: التوسيعات، والزيادات التي في جهاته، والأدوار العلوية، ونحوها الصلاة فيها تضاعف إلى هذا العدد.
وأما بقية أماكن مكة فإنها لا تدخل في هذه المضاعفة؛ وذلك لأن المسجد اسم لموضع السجود، اسم للمكان الذي يسجد فيه.
معلوم أن المسجد الحرام هو المكان الذي حول الكعبة وبقية مساجد مكة متجددة وحادثة، وكذلك أيضا: مساكن مكة وأحياؤها لا يقال: إنها تضاعف فيها الصلاة، كما تضاعف في المسجد الحرام .
فنقول: إن على الإنسان أن يتزود من الأعمال الصالحة التي قال الله: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ
أي طهر هذا البيت من الأصنام، ومن المعبودات الشركية، ومن الأنجاس وما أشبهها؛ ليكون مقرا للطائفين الذين يطوفون بالبيت والقائمين الذين يصلون فيطيلون القيام، ويرغبون في الأجر، وكذلك أيضا الركع السجود: الذين يتقربون إلى الله تعالى، يتقربون إليه بهذه العبادة؛ التي هي الركوع، والسجود والقيام والقعود.
فعلينا أن نعظم شعائر الله بما أمرنا الله تعالى به من العبادة في هذه المشاعر؛ لنكون من الذين أخبر تعالى بأنهم من المتقين: وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ
أي أنها دليل على التقوى، دليل على: أنهم من أهل التقوى ومن أهل اليقين، ومن الذين أطاعوا الله تعالى واتقوه حق تقاته.
نسأل الله أن يرزقنا تقاه، نسأله سبحانه أن يرزقنا تحقيق الإيمان به، والعمل الصالح الذي يحبه منا ويرضاه، نسأله سبحانه أن يتقبل نسكنا، أن يتقبل مناسكنا، وأن يتقبل عباداتنا، وأن يضاعف لنا الأجور، وأن يرفع لنا الدرجات، ويجزل لنا المثوبة، ونسأله أن يغفر ذنوبنا.
اللهم اغفر ذنوبنا. اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، واشف مرضانا، واستر عوراتنا، وَأَمِّنْ روعاتنا، وارفع درجاتنا، واغفر لآبائنا وأمهاتنا، واغفر اللهم لجميع المسلمين؛ الأحياء منهم والأموات إنك على كل شيء قدير. والله تعالى أعلم. وصلى الله، وسلم على محمد وآله وصحبه.
أسئـلة
س: جزاك الله خيرا. هذا سائل يقول: حاج خيمته بعيدة عن الجمرات، أراد التعجل واستنك لذلك، ولم يصل إلى الجمرات إلا المغرب. فهل يستمر ويرجم الجمرات حين وصوله، ثم يذهب ليغادر، أم يلزمه المبيت في منى ؟ جزاكم الله خيرا.
كأنه يسأل عن شيء قد مضى، بمعنى أنه في اليوم الحادي عشر ما وصل إلى الجمار إلا وقت المغرب. لا مانع من أنه يرمي بعد المغرب؛ وذلك لأنه لا بد من المبيت في الليلة البارحة .أي الليلة ليلة مساء إحدى عشر، وليلة ثنتي عشرة.
وأما إذا كان سؤاله عن اليوم الثاني عشر؛ يعني عن مثل هذا اليوم، فنقول: له إذا كنت تتعجل فلا بد أن تذهب مبكرا. ولو أن تذهب - مثلا - في الساعة الثانية عشر حتى تصل إلى المرمى في الساعة الواحدة، أو الواحدة والنصف، أو الثنتين، أو الثلاث، فبإمكانك أن ترمي، ولو كان هناك زحام شديد، ولكن إذا وصلت وأديت النسك، ورميت قبل الليل، ثم خرجت بسيارتك، وبرحلك قبل غروب الشمس فلا يلزمك أن تبيت بمنى بعد ذلك عليك أن تودع وتسافر.
س: وهذا سائل آخر فضيلة الشيخ. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
السؤال الأول: هل يجوز تقديم السعي على طواف الإفاضة؟
السؤال الثاني: صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالأبطح أين تقع هذه المنطقة بالضبط؟ وجزاكم الله عنا خيرا.
أما تقديم السعي فأجازه بعض العلماء، ولكن الجمهور على أنه لا بد أن يبدأ بالطواف ثم بالسعي. وإذا قيل: إنه يجوز أن يقدم السعي فلا بد من الموالاة بينهما. أي ساعة ما يفرغ من السعي يذهب للطواف. فأما أن يسعى ويؤخر الطواف يوما، أو يومين فنرى: أنه يلزمه إعادة الطواف؛ لأنه فاتته الموالاة.
ذكروا أن الطواف والسعي يكونان متواليين. ساعة ما يفرغ من الطواف يبدأ بالسعي هكذا فعل نبي الله -صلى الله عليه وسلم- في عمرته؛ عمرة القضية لما انتهى من الطواف بدأ بالسعي، وفي عمرته من الجعرانة لما انتهى من الطواف بدأ بالسعي، وكذلك أيضا في حجته. وكذلك أمر الناس كل من انتهى من طواف الإفاضة خرج إلى المسعى .
أجاز بعض العلماء: أن يؤخره نصف يوم. إذا كان عليه مشقة وتعب أن يطوف -مثلا - في الساعة الثامنة ضحى، ويسعى للساعة الثانية عشرة، أو الثانية بعد الظهر. هذا يعتبر فاصلا يسيرا، وأما الفاصل الطويل فلا يجوز.
س: جزاك الله خيرا، السؤال الثاني: اللي سأل فيه السائل: صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالأبطح أين تقع هذه المنطقة بالضبط؟
الأبطح هو قريب من الْمَعْلَاةِ ؛ التي هي مقبرة أهل مكة وقريب من الحجون الذي هو الطريق المعروف، الذي يسلكه الناس ذهابا وإيابا. يعني: يسمى الحجون ويسمى كداء ذكره الشاعر في قوله:
عدمنـا خيلنـا إن لـم تروهـا | تثــير النقــع مطلعـها كـداء |